الرأس منفصلاً عن الجسد: حوار مع النحات السوري مصطفى علي
مصطفى علي من مواليد راس شمرا في اللاذقية، لم يتتلمذ على يد أحد في البداية، ولكنه تشرّب عبْرَ مسيرته الحياتية المليئة بالصعوبات المؤثرات كلّها صانعاً عالمه بإرادة لا تلين دفعتْ به إلى درب الفن الشاق. حمل صخرة سيزيف وصعد وهبط بها عبر المراحل الفنية التي مرّ فيها منذ أوّل معرض أطلق مسيرته الفنية في صالة عشتار سنة 1988. اختار البرونز مادة للتحدي والتحويل والتشكيل الفني صانعاً منحوتات أذهلت آنذاك الفنان السوري الراحل فاتح المدرّس الذي اقتنى من المعرض عملاً على الفور وظلّ طول الوقت، هو وفنانون آخرون، يشجّعون مصطفى علي على مواصلة خطّه النحتي، فقد رأوا في أعماله موهبة عالية، وإمكانيات منفتحة على مجهول الفنّ وعوالمه المكنوزة في المخيّلة.
شريط طفولة يلاحق مصطفى علي إلى الآن، من اللاذقية مهد طفولته: ثالوث الجبل الرملي والساقية وغابة الصنوبر، وتلك المادّة التي تتشكّل على لحاء أشجار الصنوبر مضفية عليه لوناً آخر، التقطه الفنان ونقله، ربما بشكل لاواع إلى البرونز وإلى الموادّ التي اشتغل عليها.
هذا الثالوث هو الذي قاده إلى النحت، هو ومركز الفنون التشكيلية في اللاذقية، حيث تحوّل قسم النحت فيه إلى معبد كان يرتاده كلّ يوم وخارج أوقات الدوام الرسمي حين كان طالباً. في هذا المعبد قرّر مصطفى علي أن يسلك طريق النحت.
في محطبته في بلدة جوبر الدمشقيّة، التي تدور فيها معارك طاحنة الآن، حيث تتكدّس كميات كبيرة من جذوع الأخشاب من كلّ نوع، والتي «ستبقى بعد أن أموت، لأنني لن أملك الوقت الكافي لإيقاظ مجهولاتها التعبيرية الكامنة»، كما قال لي، تشعر أن المادة تستلقي هامدة وكأن في عروقها حلماً بأن يُعْمل الفنان يده لكي يوقظها من موتها ويحييها في أفق صناعة الجمال والتلقي البشري. وبين محطبته، ومركزه الفني في دمشق القديمة، ومقهى «كافيه دي روما» في المالكي بدمشق، أجرى أسامة إسبر هذا الحوار في نيسان/أبريل 2012 .
نصّ الحوار
أسامة إسبر: مصطفى علي الآن يختلف عن المراحل التي مرّ فيها، فقد صنع هويّته الفنيّة، وصار آخر بالنسبة إلى نفسه السابقة. من هذا الموقع، كيف تستحضر الطفل الذي كُنْتَهُ؟
مصطفى علي: لم يصبح مصطفى علي آخر بالنسبة لنفسه طالما أن التوقّد موجود لديه، هذا التوقد الذي تشكلّ في مرحلة اللاوعي والذي هو الأساس لكلّ المتغيّرات والإبداعات والاكتشافات التي يقدمها الفنان. إنه التوقد الخلاق الذي يخرجك من المألوف ويدفع بك على طريق قد لا تستطيع الوصول إلى نهايته وهنا يكمن التحدي. أما أن أكون آخر، بمعنى أن الشهرة صنعتْ مني شخصاً آخر، فهذا ما لا أقرّ به لأنني طاقة لا تتوقف عن العمل. كلّ يوم أواجه نفسي. أسأل نفسي إلى أين وصلت. وأشعر أنني لم أصل بعد. أما بالنسبة للطفولة فدائماً يحضرني شريط ذكريات. كانت جدتي تعيش في قرية نائية ومغمورة في قلب الجبال الساحلية، بعيدة عن كل الطرقات والدروب، قوام هذه القرية عدة بيوت مصنوعة من تراب مجبول مع التبن وأحجار الكلس. تنتج هذه القرية قمحاً. وما زلتُ أذكر خالي الذي كان يدرس القمح بطريقة بدائية.
أذكر التنور الذي كان موجوداً في جوف الجبل، الكميات الكبيرة من هباب الفحم التي كانت تغطي جدران ذلك الكهف الحجري. وبالطبع لا أنسى طعم الخبز البلدي والفطير الذي كانت تقوم بصناعته جدتي، وهي أول من أغنت ذاكرتي بالحكايات وقصص الجان والأميرات والمروج الخضراء. ومرة راقبتُ خالي وهو يصنع شظايا شفرات حادة من الصوان ليقوم بتثبيتها على ذلك اللوح الخشبي وهو يستعد لعملية دراسة القمح.
في الليل أذكر سراج الزيت وعواء الضباع والموقد الشتوي. حين أتذكر هذا يخطر في بالي العصر الحجري. هذا ما تقودني إليه هذه القرية التي لا تبعد عن ذاكرتي أكثر من ثلاثين عاماً. غير أن هناك شريطاً آخر لا يتوقف عن الحضور وهو البحر والجبل الرملي، نباتات الزعتر التي تنمو عليه، المرج الأخضر والساقية التي كانت تمرّ أمام بيتنا في طرف اللاذقية. هذا ما جعلني أرى العالم بثلاثة أبعاد. إنها المادة المرئية التي صنعتُ منها أحلامي ودفعتني إلى النحت.
إن البحر هو الأفق والامتداد، يساعد على صياغة الأفكار، الجبل الرملي تأخذ منه الكتل وتحوّلها إلى منحوتات. من الغابة تأخذ اللحاء، الطبقة البنيّة التي تتشكل على جذوع أشجار الصنوبر، هذه المادة الناعمة. ارتبطتْ حساسيتي أثناء الطفولة بقلق لم أفهمه وكان مؤثراً جداً. كنتُ مهتماً أيضاً بالرسم وبنحت الأشكال البسيطة. كان شغلي الشاغل هو أن أرسم وأنحت وحين أرى عملاً تشكيلياً كان يسحرني. أبعدني هذا عن التركيز على دراستي، فلم أكن طالباً مجتهداً في الدراسة بالمعنى التقليدي. كنتُ أشعر أيضاً أنني مختلف لأن لون شعري كان أحمر ذهبياً. شعرت أن هذا ميّزني عن الآخرين. لم يقف أهلي في طريقي الفني. كان أعضاء أسرتي وبينهم أبي وأمي وأخوتي يحضرون لي دوماً دفاتر الرسم ويشجعونني على ذلك.
أسامة إسبر: هل حدث أن كان هناك مؤثر ما، انسحار بآخر، دفعك في هذا الاتجاه؟
مصطفى علي: لم أصادف فناناً أو ناقداً في المرحلة الأولى ولكن أساتذتي أثناء الدراسة في المدرسة اكتشفوا موهبتي مبكراً. درستُ المرحلة الابتدائية في مدرسة «صقر قريش» في اللاذقية، وكنت أرسم الوظيفة عن كل تلاميذ صفي لأنهم لم يمتلكوا هذه الموهبة. وكلما مرّ عام من عمري كان حلمي يكبر لكي أصبح نحاتاً. وفي كل مرحلة كان يحدث شيء يؤكد لي أنّ الفنّ مصيري.
في الصف التاسع دخلتُ إلى مركز الفنون التشكيلية في اللاذقية. في قاعة النحت شعرتُ أنني داخل معبد وأنني أنتمي إلى هذا المكان. كان مديره آنذاك زكريا شريقي. وبكل جرأة قلتُ له إنني أريد أن أختصّ في النحت وترجّيته فنقلني إلى ما صار محترفي. كنت آتي إلى هذا القسم كل يوم من أيام الأسبوع، إلى درجة أنهم نسخوا لي نسخة عن المفتاح لكي آتي متى أشاء. قضيتُ في هذا المركز ثلاث سنوات.
كان قسم النحت يحتوي على تمثال فينوس وبورتريهات لتماثيل يونانية ورومانية ورافدية، وكان هناك أعمال اشتغلها بعض النحاتين كموديل. درستُ معظم الأعمال وتعلّمتُ منها. كانت هذه بدايتي شبه الأكاديمية وقد قمت بها بشكل فردي. أذكر أيضاً أن أحد أساتذتي في مركز الفنون أثّر فيَّ. كان اسمه عبد الله الحلو وقد درس في إيطاليا. كان مأخوذاً بعصر النهضة والذي، كما كان يكرر، كان بداية عصر الإنسان.
كان التخلص من المرجعية الدينية بكل أشكالها والثورة على الماضي من الأفكار التي تسحره. كان إنساناً كبيراً وقد بقيتُ مؤمناً بهذه الأفكار وقد كان أستاذي هذا كتابي الفكري الأوّل، إذا صحت التسمية. كان دائماً يقول إن الانتماء إلى أيّ حزب هو تعصّب والتعصّب ضدّ الإنسان. وكان يذكر الراهب سافونارولا، الذي كان أول راهب أحرقته محاكم التفتيش بتهمة الهرطقة. كان عبد الله الحلو يرى فيّ شخصاً موهوباً وربما كان من المؤثرات اللاوعية التي دفعتني إلى السفر إلى إيطاليا لدراسة الفن هناك.
التقيت مدرّساً آخر اسمه جورج كفى وسألته إن كان يوجد دراسة تخصصية للفن في سوريا إذ لم أكن أملك أية معلومات عن ذلك فقال لي إن هناك كلية للفنون في دمشق. كنتُ آنذاك في الصف العاشر فقررت أن أتابع دارستي وأحصل على شهادة البكالوريا وأسجل في كلية الفنون. وهكذا أتيت إلى دمشق من بيئة فلاحية فقيرة. قدّمتُ لامتحان الكلية، وفوجئت بأنني كنتُ الأوّل بين الذي تقدموا للامتحان.
هذه الخطوة الجديدة التي حققتها جعلتني أؤمن أكثر أن قدري واتجاهي في الحياة هو الفنّ والنحت تحديداً. لم يغب عن ذهني حلمي الكبير بأن أصبح نحاتاً وصارعتُ كالمارد الجبّار لكي أحقق هذا الهدف خارجاً، بفعل المصادفات، من قمقم عالمي الصغير. حين بدأتُ دراستي الجامعية شعرت أن المسؤولية صارت أكبر وأن الأمر جدّي. هذا الوعي المبكر خلق لديّ مسؤولية فبدأتُ بالقراءة والإطلاع على التجارب الفنية العربية والعالمية. تحوّل الفنّ إلى قضية وهدف بالنسبة لي. لم أكن أعرف إلى أين سأصل. كان حلمي أن أرى العالم بثلاثة أبعاد.
كانت ظروفي المادية صعبة جداً، وكان فن النحت غير مقبول اجتماعياً، ولم أكن قادراً على العيش منه فكيف سأفعل وقد تركزت عليه حياتي وصار هدفاً؟ إلا أنّ هذا لم يبعدني عن الإخلاص لجوهر العمل الفني. فأنا لم أوظّف فني وموهبتي من أجل مكاسب مادية وكنتُ أقوم بأعمال أخرى لكي أعيش. وبرأيي إن مقتل الفن يكمن في وظيفيته، وفي أن يكرّس الفنان وقته لإنتاج أعمال لكي يبيعها فحسب، أو يعيش منها. في المرحلة الجامعية عانيتُ مادّياً. كان أهلي يساعدونني قليلاً، لكنني قررت أن أعمل لكي أكمل دراستي. كنت أكرّس كل وقتي بعد انتهاء العمل للدراسة، إذ عليّ أن أنجح في كلّ الصفوف لكي لا أخسر الكلية بسبب وضعي المادي.
هذا التصميم وسط ذلك الفقر والمعاناة جعل كل مشاريعي الجامعية الفنية ناجحة. كنتُ أنجحُ بتميّز كل عام وكان الدافع هو الخروج من الأزمة. كنت أملك نقوداً للدورة الأولى فحسب، وكان التفكير بنقود الدورة الثانية من العام كابوساً ولكنني تخطيت ذلك. كنتُ أسابق الزمن لكي لا أمرّ في الحاجة والفقر. في السنة الثالثة بدأ التخصص في النحت. تفرّغتُ لحلمي وبدأت أعمل وأصارع لتكوين الشخصية والأسلوب الخاصين بي. كانت السنوات الجامعية الثلاث الأخيرة هي فترة التكوين في تجربتي الفنية. كنت وقتها أبحثُ في عمق التجربة.
في السنة الرابعة بدأت علاقتي المتميّزة مع الأساتذة وكان معظمهم فنانين مشهورين. كانوا يرون منحوتتي ويقولون: نستطيع القول إن هذه المنحوتة هي لمصطفى علي. وكان هذا يعني لي أنهم اكتشفوا في أعمالي أسلوباً مختلفاً لا يكرّر الآخرين، سواء الغربيين من الفنانين أو العرب.
ثم جاء معرض مشروع تخرّجي في السنة الأخيرة. كان من بين أعضاء لجنة التحكيم فاتح المدرس والياس زيات ونصير شورى ونذير نبعة وآخرون. فوجئوا بعملي وشجّعوني كثيراً. ولا أنسى أبداً ما قاله لي فاتح المدرس آنذاك، قال لي بالحرف الواحد: «أنت تنتمي إلى الساحل السوري، إن الانتماء الجغرافي واضح في عملك». كان هذا الانتماء الجغرافي بداية تكويني.
ما الذي تراه مُلهماً في هذه الجغرافيا؟
الشمس الساطعة القويّة والتي تفرض حضورها في أفق المتوسط، البحر هذا الضارب في أساطيره وتواريخه، وتشكيلاته الصخرية ومساحاته، الهواء والمطر، هذه هي العناصر الساحلية التي كوّنتني. وهي موجودة في منحوتاتي وتستطيع أن تستشفّها في تداخل الضوء بتفاصيل العمل، في تأثير الشمس الحادة والمطر، وأمواج البحر، ثمة ارتباط لا أستطيع تفسيره.
ماذا عن حياتك في دمشق؟
أتيتُ إلى دمشق سنة 1974 من مدينة اللاذقية إلى مدينة معقدة فيها تنوع مختلف، تحتاج إلى عقل شغّال دوماً بالحسابات لكنني نفرتُ من المدينة، من طبيعة العلاقات المادية، غير أن للمسألة جانباً هاماً أيضاً، ذلك أنه من المهم أن يعيش الفرد في حاضرة متمدنة ويؤسس علاقات وصداقات جديدة. أثارت دمشق لديّ مسائل كعلاقتها بالمدن الأخرى في العالم ومسائل كالإحساس بالزمن وعدم الإحساس به.
علمتني دمشق كثيراً. اكتشفتُ أنها تجمع بين الفن والتجارة. كنت أشعر بالمقابل أن اللاذقية تنام باكراً وكأنها لا تشاطئ البحر، أما هنا في دمشق، فحركة أمواج البشر أكبر. لم تكن هناك صالات خاصة في البداية تستقبل الفنانين إلا أنها بدأت في الثمانينات. وها أنذا الآن قد تخرجتُ من كلية الفنون. كيف أستمر؟ ولا أستطيع أن أعيش من الفن؟ ثمة تحد مع المجتمع. أساتذتي طلبوا مني الاستمرار ولكنني بحاجة إلى منافذ لطاقتي المُنتجة. رفضتُ أن أصبح مدرّساً لكي لا يسيطر عليّ الروتين. قررت العمل في الديكور من أجل تأمين الدخل، إلا أن القدر كان يدفعني دوماً نحو هدفي.
واصلت إنتاج المنحوتات، وكانت مصنوعة من مادة هشة، وكنت أنقلها معي من غرفة إلى غرفة في دمشق. في إحدى المرات قال لي أحد الأصدقاء إنني يجب أن أعرض أعمالي في صالة. تحمّستُ للفكرة وكانت الصالات الخاصة قد بدأت تستقبل الفنانين. لم يكن معي الكثير من النقود لشراء المواد. نفذت الأعمال كلّها بمادة البرونز سنة 1977. وفي 1978 حدث أول معرض لمنحوتات برونزية في تاريخ سوريا المعاصرة.
ما الذي جذبك إلى البرونز؟
إن البرونز مادة نبيلة وكانت تناسب أفكاري في تلك المرحلة. كانت بداية انطلاقتي من صالة عشتار. وكانت تُدعى السقيفة آنذاك. وشعرتُ أثناء ذلك المعرض الأول بأنني قدمتُ أعمالاً متميّزة بمادة متميّزة. وبدأ الناس يتداولون اسمي. كانت الأفكار التي حركتني حلمية الطابع تدعو للفرح والتفاؤل وفيها شيء من القدرية واستلهام الميثولوجيا، وفيها روح الزمن والتطلعات. كانت تدور في رأسي هواجس وأحلام وأفكار وأخيلة تأخذ أشكالاً جديدة تنبؤية مما جعلني أشعر آنذاك بأن الفنان قادر على التنبؤ حتى بمصير أمته.
كانت الأسئلة التي تؤرقني هي كيف أحوّل الفكرة إلى كتلة، إلى أبعاد ثلاثة، واكتشفتُ آنذاك أن اللغة لا تؤدي القوة التعبيرية للشكل الذي يدور في ذهن الفنان ويشكّل بيديه. احتفى فاتح المدرس وخليل صفية بهذا المعرض كثيراً. وقد أعجب فاتح بإحدى المنحوتات فقدمتها له كهدية شاعراً أن فناناً بوزنه حين يقرر اقتناء عمل لي فهذا يعني أنني قدمتُ شيئاً مهماً. مرت مرحلة من عشر سنوات اشتُهرت فيها وكان البرونز المادة التي أخلق منها عوالمي. بعد ذلك تفرغتُ للنحت وبدأت أعيش منه. فيما بعد قررت أن أخوض تجربة جديدة لكي أخرج من التكرار وأنفض الغبار عن ذهني. كنتُ بحاجة إلى تغيير المكان فقررت أن أذهب إلى إيطاليا بعد عشر سنوات من معرضي الأول أي في 1990. كنتُ بحاجة إلى أن أبحثَ من جديد.
إن من كتبوا عن تجربتك يقولون إنك متأثر جداً بجياكوميتي؟ كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
قالوا إنني متأثر بجياكوميتي ولكنني لم أكن كذلك. كان الأمر أعمق من هذا. حين كنتُ صغيراً كنتُ أسير في الطريق تحت لمبات الكهرباء وأتفرج على ظلّي حين كان يصير أكثر طولاً. لفت هذا انتباهي، وفي مختبر اللاذقية الأول اشتغلتُ على أعمال طويلة لكنها لم تنجح.
أثناء الدراسة الجامعية رأيتُ صوراً لأعمال جياكوميتي وفن الإتروسك والأعمال الفنية الفينيقية. كان هناك تقاطع بين هذه الأعمال. شعرتُ أنني أعرف هذا الفنان الإيطالي. لم يكن هناك اهتمام بالشكل الخارجي، بل بجوهر الإنسان، فحين تهتم بالسطح الخارجي للمنحوتة هذا يعني الدخول في جوهر العمل.
يعرّف فاتح المدرس اللوحة بأنها صورة مشوهة عن الفنان، فما هو تعريفك للمنحوتة؟
المنحوتة هي مؤشر حول ما يشعر به الفنان إزاء المحيط.. ثمة علاقة في منحوتاتي بين ما يُلتقط من الخارج وما يخرج من الداخل. إن المنحوتة منبّه حول ما يحدث وما سوف يحدث. إنها بحث وخوض في المجهول.
أشعر أن العرب سينقرضون، سيخرجون من التاريخ. كنت أمتلك هذا التصور منذ ثلاثين عاماً، وقد انعكس هذا في أعمالي النحتية. ترى لديّ محارباً كالمارد ولكنه مجرّد من القوّة، أو بلا رأس، بلا طاقة، بلا إمكانية وهذا حال العرب اليوم. ما يزال هذا الموضوع يشغلني. وإذا ما تجوّلت في المحترف سترى شخصاً محصوراً في زاوية حادة، وهذه هي أمّتنا. لقد اهتمّ الغربيون بفني أكثر من غيرهم لأنّ ذائقتهم أكبر. تصوّر أن الذين تذوّقوا واقتنوا أعمالي حتى في معارضي في دمشق هم أوروبيون وليسوا عرباً. غير أن هذا تغيّر قليلاً وصار الناس في سوريا يقولون إن مصطفى علي أدخل المنحوتة إلى منازل الناس.
كيف تتحرك كنحات في إطار الثقافة التقليدية والتي تشكل نوعاً من القيد والرقابة على فن النحت؟
لقد واجهت كارهي ورافضي النحت لأسباب دينية منذ بداياتي الفنية. تحدّيتهم وأثرتُ إشكاليات وكرّستُ نفسي كنحات عبر العمل الدؤوب والإصرار والتحدي. وبدأ الناس يقتنعون بأهمية النحت كعنصر جمالي وتعبيري وكضرورة لتجديد المشاعر. وشعرتُ من البداية أنني لا أنتمي إلى الفن الإيديولوجي التبشيري، فعالمي قائم دوماً على فكرة التمرد والاختلاف والحرية المطلقة لنبش الأعماق.
ثمة قلق يوجّه تجربتك. فأنت لا تأسر نفسك في مرحلة معيّنة، ولا في التعامل مع مادة معيّنة. كيف تصف هذا القلق؟
نشأ هذا القلق باكراً. إن القلق وقود الإبداع. فالعمل على المواد والتجديد فيها يساعدك على توليد أفكار جديدة. وهنا أنت لا تنطلق من تصورات وأفكار مسبقة. إن البحث في المادة يوقظ تعبيرات جديدة غير مألوفة. في إحدى المراحل أوقفت العمل على البرونز. صار مادة سهلة طيّعة تتحكم بها العادة. وهكذا قادني نفوري إلى مسالك أخرى. حين أنحت تكون أفكاري ضبابية. أعتمد على الاسكتش بوك. إن العملية الإبداعية متكاملة وتدخل فيها كل العناصر وتجمع بين حياتك اليومية وأحلامك.
أشعر أحياناً بأنّ الأشياء توجّهني أكثر من الكلمات، أشعر أن الكلمات لا تصنع أفكاراً بل أن المنحوتات هي الأفكار. حين أعبّر عن الرقص في النحت لا يوجّهني الوصف اللغوي للحالة. ما يوجّهني هو الحالة الحيّة التي تحدث أمامي. وحين أعبّر عن الألم لا أرى ذلك يتحقق في مجرد وجه يبكي أو جسد مدّمى، فالحالة أكبر من ذلك بكثير.
ثمة ما يمكن أن يُدعى المرحلة التدمرية في تجربتك، إن النُصُب التي نحتّها، والتي سمّيتها «أبراج الذاكرة»، والمتأثرة بالفن التدمري، متوجّهة إلى السماء وعلى وجوهها أسئلة عن الغيب. ما الذي أثارك في الفن التدمري؟
في إحدى المرات قمتُ برحلة إلى تدمر. كانت هذه رحلتي الأولى. ما شغلني أثناء تلك الرحلة هو موضوع الخلود. ما لفتَ نظري في الفن التدمري ليس فن الحياة أو فن المدينة العظيم وإنما فنّ الشواهد والمقابر التدمرية الذي قادني إلى فكرة الخلود. كانت عظمة الفنانين التدمريين تكمن في أنهم كانوا فناني حياة، إلا أنهم كانوا أيضاً عباقرة في تعبيرهم عن الموت. كانت علاقة تدمر بأهلها أفقية وكانت علاقة فلسفة تدمر بالخلود شاقولية: الانتقال من الأرض إلى السماء، الفراغ الكبير. هذه العلاقة الشاقولية هي التي شغلتني. لهذا احتجتُ إلى مادّتين لكي أدخل في هذه الظاهرة وأنحت «أبراج الذاكرة»، وهي أشكال عمودية تربط الأرض بالسماء. ولكي أنجز هذا جمعتُ بين البرونز والخشب. وكانت هذه المرحلة الفنية نتيجة لقائي بالفن التدمري.
كيف جعلت هاتين المادتين تتآلفان رغم اختلافهما ؟
إن هذا هو سرّ الفن. أن تجعل مادتين تعيشان مع بعضهما بعضاً وتخلق من تجاورهما احتمالات فنية. حين يكسو اللحم العظم تصبح العلاقة عضوية، هذا التآلف يكوّن الإنسان، وهو ما حاولت القيام به في الجمع بين البرونز والخشب، بين الهشّ والصلب.
يمتلك مصطفى علي قراءته الخاصة لتاريخ النحت المعاصر في سوريا، كيف تقوّم هذا التاريخ؟
لا أحبّ أن أطلق أحكاماً على الآخرين في هذا المجال. أترك هذه المهمة للنقاد شبه الغائبين الآن. غير أنني أطالب بالاحتفاء بسعيد مخلوف. إنه شيخ النحاتين. ثمة نحات مذهل آخر هو فتحي محمد الذي وافته المنية باكراً قبل أن يتابع رحلته الفنية. أما أبناء الجيل الحالي فلم يقدّموا تجارب إبداعية مهمة، فبوسعك أن تذكر أسماء ولكن الدائرة لم تكتمل لدى أصحاب هذه الأسماء.
سعيد مخلوف قدّم عالماً متكاملاً عبر أشكاله الجذعيّة الزيتونيّة المتداخلة والملتفّة. كان يستلهم تراث سوريا القديم، وقد كان أسير أفكار معيّنة أثرت في إنتاجه. كان وحيد زمانه في النحت، وكان يجب أن يتحول محترفه المتواضع إلى متحف لو كانت وزارة الثقاة وإدارة معرض دمشق الدولي تقدّران أهمية الفن. لم يهتم أحد بسعيد مخلوف، ولكنه يبقى شرارة أولى تضيء الطريق.
نعاني من مسألة مهمة وهي أنّ الأثر الذي يتركه الفنان يضيع، يحتاج الفنان إلى متحف يأوي آثاره. بالنسبة لي أقلق على مستقبل أعمالي من تقلبات السياسة والمستقبل غير المؤكد أو الضبابي، كالذي تقودنا إليه الظروف الحالية. فالفكر الذي تؤمن به القوى السائدة يلغي الإرث الإبداعي الحقيقي الذي عمره آلاف السنين.
ثمة تهديد ضمنيّ للفنّ، أشعر به بقوة وسط الخطاب السائد. فرغم اغتراب العمل الفنيّ، يظلّ في غربته غريباً، ألم يقل أبو حيان التوحيدي: الغريب هو من في غربته غريب. إن الفن ليس وظيفياً، لا يخدم إيديولوجيات معيّنة، لا يمكن أن يكون امتداداً لما هو نفعيّ على المستوى الجمالي. إنه مغامرة روحية، تفجير للأسئلة وترويض للغرابة. إن مشكلتنا الجوهرية هي الدين، فهو في صيغته الحالية، وخارج فصله عن الدولة، مُصادِر للعقل، ولن تستقيم أمورنا إلا بعد أن يصبح الدين لله والوطن للجميع.
وحين تعيش في جوّ يصادرك تظلّ تشعر بالقلق. إن قوّتك كمؤمن يجب أن تكون مستمدّة من الله وليس من الدولة. إن الدولة لا دين لها، يجب أن تحكم وتعدل بين الناس وبالتالي لا يجوز أن يكون لها شكل ديني. إنّ في ما يحدث هزيمة حقيقيّة للفكر المتنوّر والحضاري. لقد حُوصرت الأفكار الجديدة التي تولّدتْ في العقود الأخيرة، وما يفاجئك هو هذا الصعود االسّلفي الذي يطوّق كلّ شيء... ومن هنا أشعر بالقلق.
ثمة تركيز على البورتريه في أعمالك الأخيرة، ما الذي يعنيه الوجه لك؟
ركزت على الوجه لأنه مصنع الأفكار ويحرّك كلّ شيء. فالوجه حالة ومؤشر وتنبؤ بما سيحدث. فأنا أضع هذا الرأس في الفراغ منفصلاً عن جسده ومحيطه لأن الأفكار لدينا منفصلة عن محيطها.
ماذا تعني لك وجوه مروان قصاب باشي ؟
الوجه لدى مروان خريطة وجغرافيا تشبه الأرض. وقد وصل إلى حالة تعبيرية قصوى من خلال الخريطة الوجهية التي صنعها. إنّ التعابير توحي بالألم والغموض أحياناً وأيضاً هي بداية دائمة. أما الوجه عندي فهو نهاية، فحين أنظر حولي في المحيط لا أرى وجهاً بمعنى الانطلاق والبحث والارتياد والحضور.
ما الذي قدمته لك رحلتك إلى إيطاليا؟
كانت حياتي في إيطاليا مرحلة مفصلية. كانت السنة الأولى فوضوية وقضيتها في التعبير عن الأفكار التي تخطر في ذهني على الورق. أما السنة الثانية فكانت عملية وسمّيتها المرحلة التركيبية التي أنتجت أعمالي التركيبية، أي إحاطة الفراغ بأشكال ومنحوتات برونزية تقدم إمكانيات تعبيرية فيها نوع من العلاقة الوثيقة بين الفراغ والشكل. في السنة الأولى تذكرت شريط الطفولة: الساقية والبحر والجبل الرملي وغابة الصنوبر. كان هذا الشريط مذهلاً وأعادني إلى مرجعية معيّنة وجعلني أنطلق من جديد. ذكرني هذا بتعريف الشاعر الفرنسي بودلير للطفولة بأنها العبقرية المستعادة قصداً. وفي إيطاليا فهمت أين تكمن الينابيع التي تؤثر في تجربتي.
كان شاطئ إيطاليا يشبه شاطئ اللاذقية. وهناك بدأت التداعيات تتدفق في ذهني وأتساءل عن العمليات التي تدور في الذهن أو القلب أو اللاشعور قبل أن تتحول إلى عمل فني. إنه نوع من التمارين الذهنية لتحويل الكلمات إلى شعر على يد الشاعر وإلى أعمال فنية على يد الفنان. وهذا يساعدك في نفض الغبار عن دماغك.
كنتُ أستيقظ أحياناً في الصباح شاعراً بالبلادة والجمود، دون أي نشاط دماغي، وفي روما كنت أرتاد المقهى لتناول القهوة الإيطالية. كانت تأتي ساخنة. أضع فيها السكّر وأحركها، وهنا تحريك الأصابع، مع رائحة البنّ، يجعلني أحرك دماغي وأدخل في مجال آخر. هذا سرّ بسيط، هناك ارتباط بين الدماغ واليد والمشاعر وكل هذا يتوقّد في العملية الإبداعية.
كيف تعرّف الهوية الفنية؟ قلتَ إن من ينظر إلى منحوتتك يقول هذه لمصطفى علي، هل هويتك الفنية تكمن في أنك أنجزت أسلوباً خاصاً بك؟
إن الهوية الفنية هي أن تكون مختلفاً ومجدِّداً ومتميّزاً ومتحوّلاً على الدوام ضمن الروح الخاصة بك.
هل تشعر أحياناً بأنك تكرر نفسك؟ إن الشعور بالتكرار شعور مُضْن. لكنك تشعر أنك بحاجة إليه أحياناً وخاصة حين تكتشف أنك لم تكمل الدورة، لهذا تكررّ لكي تشعر أنك أغلقت الدائرة. ولكن يجب الانتباه لأن هذا المطب خطير وعلى الفنان أن يكافح لكي يخرج منه.
أنت تهدم الجسد الإنساني وتعيد صياغته في أوضاع تعكس انهدامه الاجتماعي وعدم تحقّقه، ماذا عن فتنة الجسد الأنثوي، هل ألهمك جسد المرأة وقادك في اتجاهات أخرى؟
جسد المرأة ملهمٌ أساسيّ لديّ لكنه لا يذهب نحو الفتنة والإغراء بل نحو قوة تعبيرية درامية. يحدث الإغراء حين يكون لديك موديل تعمل عليه وحين يكون لديك هدف آخر تمنح الجسد قوة تعبيرية لها علاقة بالحدث. فعلى سبيل المثال إن التمثال الذي أطلقت عليه اسم «امرأة من غزة» أو «المرأة التي في التابوت الزجاجي»، يعكسان حالة دمار.
كيف يلهمك الجسد في علاقته مع الزمن؟
يحزنني الجسد البشري كونه أثراً عابراً، لكن تراجيديا عبوره هذه تجعله مؤثراً وقويّاً. حين تتأمل تمثال «امرأة من غزة» تشعر أنّ للجسد المدمّى وقعاً خاصاً وأنه سيؤثر في الأجيال القادمة.
أنا لا يعنيني الفناء. أركز على فكرة لها ديمومة وهنا تكمن قوة الفن.
يذكرك تمثال «المرأة التي في التابوت الزجاجي» بأجساد الضحايا في مدينة بومبي الإيطالية التي غمرها الرماد البركاني. غمر البركان المدينة منذ ثلاثمائة عام وترك أجساداً في حالة ثبات في وضعيتها التي كانت آنذاك. كانوا غافلين عن غبار البركان الذي طمرهم. حفظ الغبار البركاني هذه الأجساد إلى أن كُشف عنها في القرنين السابع والثامن عشر وهي موجودة في متحف بومبي. بقيتْ هذه الحالة في ذهني.
حين عملت على فكرة الانقراض تذكرت الحالة والمرأة هي مجموعة أجزاء مقطّعة ومركّبة. أما نصب «المقصلة» فهو الحد الفاصل بين زمنين، وبين الفكر والجسد. فالجسد هو الأرض والوطن، والرأس هو الفكر المنفصل، والآن ندفع الثمن دماً. إن «المقصلة» هي تعبير عن حالة الفكر العربي المعاصر وتطرح سؤالاً عميقاً هو: إلى أين نحن ذاهبون؟
أعمالك أشكال تصرخ ضد الانقراض، ومن هنا يأتي سحرها المقلق والموقظ، ويبدو للمتأمّل فيها أنّ للأحداث المحيطة تأثيرها الواضح.
أعمل الآن على مرحلة أسميها «تأثير الأحداث في الجسد». ترى أشكالاً مدمّاة، توحي بالتدهور والانهيار، أشكالاً تشخيصية فيها بعد دراميّ. ثمة بنية تشريحية وأعصاب جديدة، علاقة بين مادة هشة ومادة صلبة في أوضاع مختلفة كلها تعبّر عن السقوط. ثمة أيضاً تأكيد على حركات الأصابع.
هل يشغلك هاجس الموت؟
ما يشغلني هو الاستمرارية الإبداعية وحب الإنسان لكي يترك أثراً. حين تكون لديك شبهات وأسئلة كبيرة حول المسلمات كالجنة والنار وإلى أين أنت ذاهب، تبحث عن أجوبة. أنا لا أبحث عن أجوبة، إن أعمالي هي أسئلتي. إن الخلود بالنسبة لي هو الاستمرار في الآخر والأثر الذي تتركه.
كيف تشعر وأنت تعمل في سياق يتسم بانطفاء التوقد الفكري وغياب النقد، هل تشعر باللاجدوى؟
أنا لا أفقد الأمل أبداً لأنني أؤمن بالفرد المبدع، وأمتلك نظرة إستراتيجية. ما يحدث الآن في العالم العربي هو نتاج مكنة العطالة والفكر المُعطّل. إن انطفاء التوقد الفكري، وغياب التحليل والنقد وإرساء ثقافة الاختلاف والتعدد سيؤدي إلى نهاية الأمة. أؤكد على هذا لأنّ من واجب الفنان هو التنبيه إلى هذا الحدث المريع وإلا سيكون العرب جزءاً من التراكم الجيولوجيّ والحطام والترسّبات التي ستنتهي إلى الدمار.
كانت أعمالي منذ البداية مؤشرات على هذا الخراب. وأؤمن بقوة أنّ هذه الأمة لن ينقذها إلا فكر قوي متوقِّد ومتجدِّد يقوم بعمليات تفكيك ممنهجة لسياقاتها في أبعادها كلّها وخاصة بعد الماضي.
سننتقل إلى مستوى آخر في الحوار. كل فنان يستكشف الواقع بطريقته الخاصة، أنت كنحّات كيف تقرأ الأشياء؟
قمت بالتفكير طويلاً ورأيت أن كثيراً من الأشياء التي حمّلتها معاني ليس لها معنى، أو بالأحرى ليس هناك شيء له معنى أو شيء آخر ليس له معنى. إن الأشياء تحمل معاني مختلفة ولكل شيء معناه الخاصّ وما يعنيه الشيء ذاته غير الذي تعنيه نفسك عنه. إن الغبار الذي يغطي شكلاً ما يمنحه بعداً آخراً، والرطوبة والهواء والضوء يضفون بعداً آخر للأشياء التي نراها أو نكتشفها أو نقوم بتأليفها. عندما يأتي الركام ويغطي الشيء، فإن هذه الأشياء لا تنتهي بل تبقى في الذاكرة.
إذا غمر الماء سطح هذه الكلمات فإن الكتابة تأخذ بعداً مختلفاً، قد يصبح طعمها مالحاً أو مراً أو حامضاً ولكنه من الصعب أن يصبح حلواً. أما إذا طفت الكلمات على سطح الماء فهذا دليل على شفافيتها ورقتها. إن ورقة رُميتْ في مهب الريح لا تفقد رونقها، بل إن الشمس والمطر والهواء والليل والنهار والحرارة يكسبونها معنى مختلفاً، وعندما تضيفها إلى صفحة بيضاء تغني هذا السطح وتفقده الصفاء ولكنه يصبح سطحاً أبيضَ مضافاً إليه ورقة كانت في مهب الريح.
ما علاقة ما تقوله بالعمل الفني؟
إن العمل الفني الذي نقوم به هو الأشياء مضافاً إليها التفكير والعبث، «اللعب». إن ماهية الأشياء سواء أكانت مرئية أم غير مرئية تخلق في الشعور صوراً، تغني مساحاتها الذاكرة المحملة بالمخزون البعيد للعقل الباطن والذاكرة القريبة مضافاً إليها الثقافة الشكلية والنزوات. إن ابتكار أشياء جديدة، أي الأشياء الموجودة + الفكر، هي معنى جديد لهذه الأشياء. التأليف في الفن يختلف عن الأشياء التي تنمو في الطبيعة. إن النمو في الطبيعة مبني على البنيوية العضوية، وعلى الشيء الكامن داخل الشكل، وعلى بنية المادة الحية في جوهر الشيء، أما في التأليف فيمكن أن تحمل شتات الأشياء التي تخلو من الحياة وهي أشياء مبنية على عدم التآلف العضوي.
«الشتات + الوعي + الروح المبدع»، يعود التآلف لهذه الأشياء ويعود الانسجام ليكوّن بنية عضوية متحدة خاصة به.كنتُ أحياناً أكتشف أشياء طبيعية لها طابع فنيّ. كانت تحتاج إلى تدخّل. وقد بنيتُ جزءاً من تجربتي على هذا. كنتُ ألملمُ جذوع أشجار مقطوعة وأجزاء من آلة وكنت أرى فيها إمكانية تعبيرية محرّضة.
الآن لدي أعمال عملاقة. منذ عامين أعمل على نصب ضخم سمّيته «سيف الشام». رفعتهُ بالرافعة. شعرتُ أنني أما عمل عملاق لا يمكن إدخاله إلى المشغل. ثمة عمل آخر أيضاً أشتغل عليه وزنه طن وارتفاعه أربعة أمتار وقد سمّيته «رأس نائم».
ما الذي دفعك إلى العمل على أحجام ضخمة؟
شعرتُ بحاجة إلى تكبير. ثمة شيء يُدعى الإحساس بالنّصب. تشعر بقوة المعنى والفكرة وراء هذا الشكل. يحدث حوار من نوع مختلف مع الفراغ. ثمة تأثير الضوء والهواء والمطر وتقلبات الفصول، لكل هذا علاقة بالشكل الموجود في الفراغ. حتى الليل والنهار يكونان محسوبين. هذا يجعلك تفكر بالزمن، بالعلاقة بالديمومة.
«سيف الشام» عبارة عن قطعة خشبية لها شكل سيف يشبه القامة، مستقيم، غمده عبارة عن شكل مثل حرف U، باتجاه السماء. إنه يعبّر عن تاريخ بلاد الشام، استمراريتها وبقائها. إن اسم السيف الفولاذي الذي اخترعه أهل الشام هو «جوهر». مادّته الصلبة المرنة والمتشظّية تتحول إلى شفرات في لحظة معيّنة.
لماذا جعلت هذا السيف خشبيّاً؟
ما هدفتُ إليه هو تهذيب السيف، حاولتُ تخفيف حدّته من أجل تحويله إلى صرح حضاري رمزيّ. إن اللعب بملامس السطح يجاري اللعب على الزمن. حين أرفع هذا السيف في الفراغ أشير وأقول إلى أين أنتم ذاهبون؟
أما العمل الآخر، «رأس نائم» فهو يذكرني بجذورنا الفينيقيّة. إنه ملتبس، مزيج قناع ووجه، أو ضائع بين الوجه والقناع، مركب على عمامة. هل له علاقة بالكون؟ أو بالفكر؟ بالنسبة للفينيقيين كان يرتبط بالمطلق، المقدس، وبالكون الرحب.
ثمة غموض في هذا الوجه، إن الملامح غائبة، وثمة إيغال في التجريد؟
إن الغموض الذي فيه يقودك إلى ماض بعيد ومستقبل بعيد. إنه يعيد طرح السؤال حول الوجه كهوية، كحضور، فالتركيز على المساحة العريضة على حساب التفاصيل، الضوء الذي يأخذ راحته، ويمشي عليه بقوة وانسياب، بساطة الملامح، أو غيابها، كل هذا مدروس.
أرى في محترفك أحجاراً طبيعية وحصى وقضبان فولاذ، كيف تعرّفها في حالتها هذه؟
إن الحجر الخام، الطبيعيّ، إذا مرّ عليه الزمن يأخذ أشكالاً فنية جميلة وبوسعك أن ترى هذا في سوريا في طريق الجوبة ومقامات بني هاشم. هنا تشعر أن الصخور هي الزمن. ولكنني أضيف أن الحصاة الملساء هي شيء آخر. إن شكل الكون حصوي. إن الحصاة الملساء هي الكون. أما قضبان الفولاذ والحديد فهي رمز للصلابة والمرونة ويد الفنان هي التي تولّد أفكارها الخاصة حين تتعامل مع هذه الأمور.
من بين الأفكار التي تتوالد في ذهنك، ما طبيعة الأفكار التي تحرّضك على النحت، على توليد الشكل الفنيّ؟
حين أستلقي على الشاطىء أنتظر الريح لتأتيني بالأفكار الجديدة، ألتقط منها ما يحلو لي وأضيف إليها اللون الأزرق، تساعدني الغيوم والجبال والأرض وما ابتكره الإنسان من أشياء تافهة وأشياء ذات قيمة. الريح أتت إلى روحي بفكرة، كيف أحافظ على المادة الهشة والطرية التي يمكن أن تطحنها الأفكار القاسية، كيف تحيط هذه الأشياء بالرعاية والطمأنينة؟ قد تبني لها أسواراً من مواد قوية وتحيطها بالكتمان، وفي كثير من الأحيان يكفي أن تشير إليها وتعلن للملأ أن «هذه مواد ليس لها قيمة لكن ينبغي أن نحافظ عليها».
الأفكار ليست فقيرة وليست غنية. الأفكار موجودة في الأشياء التافهة والثمينة على حد سواء، في المادة البيضاء والرمل المبعثر. يثيرني خروج الألوان من البحر، والحركة التي يحدثها الموج في ذاكرتي، وحديث اثنين على الشاطىء وهذا الطمي من الأفكار الذي حضر من الذاكرة للتو، والهواء الذي أبعد هذه الغشاوة، والنهاية التي حظي بها اللون الأحمر. إن الأشياء تحوي قسطاً كبيراً من التجريد، والألوان والحركة والذاكرة، تستمد منها، والحدث يصنع تحولاً في المواد على صعيد الشكل والكم والنوع. كيف تتمتع الأشياء بمساعدة الضوء الذي يأتي من الذاكرة حيث يشبه الأفكار الذهنية ونور الشمس قبل المغيب؟
المتعة المطلقة هي التفرد والاستغراق بمعنى الأشياء وما ينتج عنها، من حركة الألوان المنبعثة من الأحجام والمسطحات، والحركة التي تدور حولك تخلق ما يسمى «بالشيء الجديد»، وهو التجريد المطلق المستخلص من المرئيات + المتعة الخالصة للنمو الجديد للأفكار والمواد الجديدة + الرائحة الناتجة عن هذا التفاعل.
يتحول الجسد إلى شجرة عن طريق التفكك الذري، والأفكار التي تدور في الدماغ وتدخل إلى الذاكرة تشبه عملية التحول للأجساد والأشياء التي تدخل باطن الأرض، حيث تدور عمليات غامضة وسرية ومعقدة قبل أن تخرج إلى سطح الأرض وتتحول إلى شجر أو...........إن الأفكار التي تدور في الدماغ تشبه هذه العمليات الكيميائية مضافاً إليها الوعي والمصادفة. دقيق وغير مرئي وشديد الكثافة المكان الذي تنبع منه الأفكار.الموضوع مركب من مواد غير متجانسة، والتآلف يجمعه القلب والمشاعر، الإدراك مهمة العقل الدقيقة. ثمة مدّ ذهني له علاقة بالشكل عندما يتحول إلى وجود.وفي النهاية، إن الشكل عندما يتحول إلى قوام عيني فيزيائي، يغدو مستقلاً استقلالاً تاماً عن الأفكار التي قامت بصناعته رغم وجود هذا المد الذهني في البنية الخلوية للشكل. إنّ التمثل العضوي للحالة الفكرية يغدو تبادلياً، هذه الحيوية التي تميز العمل المبدع عندما يتحول إلى وجود.
كيف تبعث القلق في مادة عضوية جافة و باردة، وتبعث روحاً في حطب مقطوع ؟
نحن لسنا في غنى عن هذا القلق، الذي يبعث في الأشياء الباردة والميتة حياة، إن لحظة الإبداع تأتي عندما يتقدم الدماغ بالأفكار الجديدة وإن القلق هو حالة الوجود التي تنتج هذه الأفكار.إن عينيك عندما تشبعان من الألوان والأحجام والأشكال الملقاة هنا وهناك، وفي أماكن مختلفة من الدنيا،في الأرض و في السماء، في الواقع وفي الخيال، في الحلم وفي اليقظة، هذه المتعة الحسية التي تحظى بها العين ويتشبع بها القلب والمشاعر، كيف يمكن أن تصوغها يد الفنان بعد أن يخلّصها من أشكالها المعروفة ؟
إن الأفكار والأشياء التي تنبع من أعماق الفنان، هي مواد وأفكار دخلت إلى الذاكرة، وقامت هذه الذاكرة بمساعدة العقل بتفكيكها وتجريدها من مضمونها. وبمعنى آخر «لقد فقدت معناها» حيث يقوم النشاط الحسي للفنان وبمساعدة العقل مرةً أخرى، باصطفاء وتنقية وتجريد هذه المواد وتجهيزها لصناعة مادة فنية جديدة، وإلباس هذه الأشياء والأفكار أشكالاً وصوراً حسية أو تشخيصية، وبهذا تكسب هذه الأشياء و المواد معنىً آخر. إنّ الأفكار كالعواصف تهب قوية وتضغط على الدماغ، وعلى الذاكرة، أو تأتيك بهدوء و تحفر في أعماق الشعور والعقل الباطن.
كيف يتم تصنيع هذه الأفكار؟
يشارك في صناعة الأفكار الأحلام والذاكرة، والشعور، واللاشعور والحواس. ويتم ذلك عبر الوسيط المادي «الأشياء، الأدوات، العين، اليد، الأذن........»
تقوم الأحلام وهي أشكال غير مرئية والذاكرة بتوضعها الأفقي والشاقولي أو المائل بعمل اختراقي، ويقوم الشعور بتكثيف الحالة الراهنة، ويتدخل اللاشعور بحضوره غير المرئي والخفي، حيث تقوم الحواس بصناعة الأفكار وتحويلها من وجود معنوي مفاهيمي إلى وجود مادي ذي شكل وقوام. إن المفاجآت والتحولات التي تطرأ على الفكرة، عبر الزمن الذي تمر به غير معنية تماماً بالتحولات التي تطرأ على هذه الفكرة وهي تتحول إلى وجود، بحيث يصبح معنياً الشكل الذي أنتجته الفكرة أو الشكل الذي تظهر فيه الفكرة. إن فكرة تساقط الثلج غير معنية بالتحولات التي تطرأ عندما يسقط الثلج فعلياً.
إنّ القلب ليس وعاءً للأفكار وقد تحولت إلى وجود، إنّ الصور والأجساد والأشياء المحتواة داخل القلب هي جزء من وجود كلّي. إن تفريغ الفكرة يعتمد على تكثيف الحواس حيث تمر الفكرة عبر قناة الشعور لتتحول إلى ملمس ورؤيا وجودية «مرئية».
يبدو أنّ الأفكار بالنسبة لك قد تكون أشكالاً، وأشياء، ومشاهد، هل تريد القول إن هناك لغة أخرى لا علاقة لها باللغات المتداولة تعبّر عن هذه الأفكار؟ هل تستطيع أن تقول لي ما الذي تعنيه بالأفكار؟
ثمة أفكار مرمية وساكنة داخل علبة سوداء، محاطة بظل مادة شديدة الكثافة وجامدة.
أفكار مقفلة، أفكار لا تشبه الماء، هل يحركها القلب؟
أفكار تعبث بها الظلال، أفكار لا تجري ولا تستريح وهي في قلب المادة الساكنة.
أفكار هي الضوء الذي ينير العقل وساحات الشعور البديعة.
أفكار هي الأصابع والشفاه والعيون والحس والسمع.
ليست كالماء وليست كالهواء... وليست أي شيء آخر، أفكار تضيء المساحة المظلمة، وهناك مرآة أو فلنقل شيء يشبه مرآة من كريستال تتردد فيه أصداء صامته أو ذات رنين تتجه أصداؤه إلى الداخل حيث تتحول الفكرة إلى مادة شديدة الكثافة، ثم تبزغ كلمح البصر لتصبح وجوداً. هذا ما أعنيه بالأفكار.
هل يمكن أن نتحدث عن امتداد للذاكرة يتقاطع مع امتداد وتوسّع العالم المرئيّ، وهل ثمة محرّض في هذا التقاطع؟
امتداد الذاكرة شريط دقيق ورفيع حلزوني وغير نهائي تكمن في داخله بذور وصور وأفكار تخرج كالوميض إلى ساحة اليقظة، يساعدها الإدراك والروح المشرقة على اتحادها مع العصر و التيارات الجديدة.
إن علاقة الفكر بالمادة في هذا الإطار تأتي من خلال هذا الشريط الحلزوني المليء بالحزم المشعة التي تضيء ساحة الشعور بالإبداعات المختلفة. إن علاقة الموج بالريح لا تشبه علاقة الفكر بالمادة، إن علاقة الموج بالريح فيزيائية بينما علاقة الفكر بالمادة علاقة غير مرئية، لذا يصعب تفسيرها، قد تكون علاقة كيميائية وهذا يفسر عملية الإنتاج الفني. وبالتالي أستطيع القول إن الموج والريح يخدمان هذا الشريط الحلزوني بتحريضه. بدون هذا التحريض لا أنتج عملاً فنياً.
أودّ أن أضيف هنا أنني ألتقط من الطريق، من الركام أشياء مرمية، متآكلة، مرَّ عليها الزمان، أحيطها بالرعاية والعناية، أشياء ليست لها قيمة مادية، ولكن لها قيمة أخرى، لنقل «إنها أشياء ذات قيمة معنوية» لا تحمل خصائص ذات بعد جمالي ولا تحمل صفة الشكل الجميل..... ليس لها بعد زماني أو مكاني، أشياء مسطحة، أو ذات حجوم ليست قبيحة وليست جميلة ولم تخضع لتحولات كبيرة، ولم يكن لها أثر في الأفكار الكبيرة التي يتبناها كثير من البشر ولا على التحولات الجيولوجية التي تخضع لها الأرض.
بكل بساطة ألتقط هذه الأشياء وأعطيها بعداً زمنياً لتصبح «أشياء ذات أهمية تافهة». فعندما تفقد هذه الأشياء قيمتها تصبح أكثر حرية في التعامل معها، هذه المواد ليس لها زمان وليس لها مكان، وليست لها صفة، أي يصبح لها احتمالات كثيرة وخاضعة لتحولات المتلقي ولكن هذه الأشياء لا تفقد عنصر الدراما وإن كانت لا تدرك مصيرها، وبمعنى آخر إن دراما العمل هو الحالة القلقة لهذه الأشياء المبعثرة.
هل هناك ذاكرة أخرى غير مألوفة مظلمة وأشدّ سواداً تستقي منها؟
كل ما أتلقاه ويمرّ عبر حواسي يدخل إلى هذا المكان المظلم، وهو أشبه ما يكون بنقطة شديدة السواد وشديدة الكثافة، تقبع في أعماق الدماغ. ما أتلقاه يأتي بسرعة السنين الضوئية. يدخل ليشكل جزءاً من هذا الخليط المتجانس. وهذا المخزون الشديد الكثافة والشديد الظلمة هو المنبع الأساسي للأفكار، وهذا المخزون يشبه بظلمته باطن الأرض، وهذه الأفكار تشبه الأشياء التي تدفن في الأرض. وما يحدث داخل الأرض ليس الموت، بل هو كمون أو تحول وعمليات سرية بانتظار التفتح المتوقع. إلا أنّ هناك فرقاً بين هذا التشابه وهذا التفتح على صعيد العمليات التي تنبع من هذه النقطة السوداء على الأغلب تكون غير متوقعة، وهذه النقطة هي إحدى صفات العمل الفني.
ثمة علاقة وثيقة بينك وبين الفراغ، كيف تروّض الفراغ فنيّاً، كيف تخلق علاقه بين الشكل وفراغه؟ كيف يصبح الفراغ فنّاً؟
عندما يتحرك شخص ما على مسرح أو في الطريق أو في أي مكان، فإنه ينقل الفراغ من مكان إلى آخر. نحن تعودنا بشكل عام أن نرى شكلاً دون أن نرى الفراغ الذي يحيط بهذا الشكل. إن ما يحدثه الشكل سواء كان ثابتاً أم متحركاً هو قطع لهذا الفضاء، اللامتناهي، ومنحه شكلاً. يحدد هذا الفضاء الشكل المرئي، أو بشكل أدق، الخط الخارجي الدقيق لحجم وسطح الشكل المرئي، عندما يلغى الشكل يصبح الفراغ عدماً أو بشكل أدق «غير مرئي».
كيف يكون هذا الفراغ جميلاً ؟ يتم ذلك عن طريق الشكل والضوء والصمت،
أو الشكل والضوء والصوت.........
أو الشكل والضوء والحركة والصوت...... إلخ
كيف يصبح الفراغ فناً ؟
الفن هو اختيار المساحة والعناصر التي تحدد الفراغ في هذه المساحة.
أنت هنا تحاول أن تثير الذهن
أحاول أن أقول هنا شيئاً لا يخاطب البصر، إن هذه المحاولات والعمليات من أجل مخاطبة الذهن، وتحريكه بشكل أفقي أو عمودي، أو فلنقل في كل الاتجاهات، كيف يحقق هذا العمل أو هذا الشيء الإثارات في الذهن؟ أنت تقف أمام شيء غامض وتقول إن هناك غموضاً. إنني أمام شيء لا أستطيع أن أفهمه، ولكن هل من الضرورة أن تفهمه؟ هناك الكثير من الأشياء في الدنيا غامضة وغير مفهومة. إن إثارة مثل هذا التساؤل هو المهم بالنسبة لعلاقة العمل الفني بالنشاط الذهني. إن الغبار المكدس فوق الدماغ لا يمكن أن يزيله إلا هذا النوع من النشاط الغامض وغير المفهوم، وسواء كانت الأشياء المطروحة بسيطة أم معقدة ذات عمق أو مسطحة باردة أو حارة.
في عملك النحتي نرى أن تلك الأشياء التافهة التي لا قيمة لها تكتسب حياة جديدة، تمرّ في تحوّل؟ هل تحدّثنا عن طبيعة هذا التحول؟ هل هو فكري، أم زمني؟ أم ماذا؟
إن التحول الذي يحدث لفكرة وهي في طريقها إلى التشكيل ليس ماضياً تماماً وليس حاضراً تماماً بل هو الحاضر والماضي مضافاً إليهما لحظة البزوغ. إن ماضي برتقالة لا يعني شيئاً للشجرة التي تحضنها، ولكن بالنسبة لي البرتقالة أو الأشياء التي تحيط بي هي عمل ذهني. إن الأشياء و الطبيعة لا تملك ذاكرة، وبالتالي لا يحدث لهذه الأشياء تحول فكري.
إنني أرى بعين الحاضر الأشياء التي مرت أو بقيت في الذاكرة و بالتالي هذه الأشياء خضعت لنشاط ذهني. إن العمل الفني يبدأ من هنا، أي من النشاط الذهني الذي هو أكثر تعقيداً، لأن هذه العمليات أصبحت أكثر ارتباطاً بنشاط الدماغ حيث فقدت الأشياء صفاتها، أي أصبحت أقرب إلى التجريد، إنما الماضي الذي أملكه له هذه الخاصية الجديدة، لأنه يمر عبر هذا النشاط الذهني ليتفتح بأشكال جديدة.
كيف تبزغ الحياة في حطبة أو لنقل في تنكة ؟ إن الحواس في هذا المجال مهمة جداً. إن الأشياء والإحساس بها وهي تمر عبر قنوات الجسد لتنفعل مع القلب والدماغ، هذه العمليات الدماغية السرية وغير الواضحة في كثير من الأحيان، تجري بسرعة مذهلة، تشبه اللمح أو سرعة السنين الضوئية، حيث تنبت في الدماغ الفكرة المتحدة مع الروح التي خرجت عبر اليد أو النشاط الذهني المتنوع، عندئذ تنبعث الأشياء الجافة و الميتة إلى الحياة. كيف تعرف أن الحياة ليست هذه المواد؟يكفي أن تقف أمامها فإذا تكلمت أو تفاعلت معها، فهذا يعني أن الروح قد دخلت إلى أعماقها.
ثمة رموز وعناصر ميثولوجية تواكب تجربتك الفنية، كيف تقوم بتوظيفها؟
تواكب الشخص عناصر ورموز طيلة سيرة حياته، وتأخذ هذه الرموز أشكالاً تبعاً للتجربة الفنية وللزمن الذي يمر فيه الفنان. هذه الرموز لها ماض في الذاكرة والمجتمع وفي الطقس والأرض، تغنيها التجربة والخبرة، وتضعف عندما تهجرها وتذهب إلى عوالم غريبة عنك. تتأكد أهميتها عندما تتوقف عن البحث في عالم غيرك حيث تتفتح في أشكال فنية خاصة بك.
ما هو ماضي هذه الأشياء الحية الميتة؟ وهل صنعت الأفكار هذه الأشياء أم الأشياء صنعت الأفكار؟
إن الأشياء حاضرة وإنما الأفكار أضافت إليها بعداً آخر، ومنحتها معاني أخرى قد لا تعنيها الأشياء. إن إلباس الصبغة الميثولوجية على حيوان يعيش على الأرض، لا يعني شيئاً لهذا الحيوان، ولا يمس شيئاً في جوهره، وإنما جوهرنا. تصبح الميثولوجيا التي اخترعها الذهن أعلى، تصير حقيقة مجردة عن الذهن وتنمو نمواً غير عضوي.
إن الأفكار الفنية تأتي من هذا النمو للميثولوجيا وعلاقتها بالأشياء، تأتي حين ترى بعينيك وعقلك وكل مشاعرك هذا العراك اللامتناهي للمهزلة، وترى النهايات التراجيدية للأفكار، وهذا الركام للأشياء التي فقدت قيمتها «حديد، تنك، خشب، حجر، قطن، أشياء متحركة، بشر، آلات، ماعز..........» وتشهد هذا الاقتحام القسري لهذا الجبل العملاق، الذي يحضن المدينة، والأهوال التي أصابت هذا الأديم. ونحن لسنا في الحاضر ولا في الماضي وبالطبع ليس في المستقبل. وهل يستطيع أحدٌ أن يقول لي، ماذا يعني الزمن في هذه الحالة ؟ أو هل هناك زمن، وما هي الحركة بالنسبة له؟
هل يستطيع أحد أن يعلمني كيف تعمل القطارات والسيارات؟ وكيف تمضي قدماً مع الحاسوب؟
وهل خطر ببال أحد، لماذا كل هذا البطء الذي يحظى به سير السلحفاة، وهذا الثبات العميق والطويل الذي يتمتع به اللون الأسود؟ وهل رأى أحد سهماً يسير بسرعة السنين الضوئية؟ هذا التوقف المريع للغبار، والثبات الذي أصاب النبات، والكفن الذي يحيط بنا، هل مرَّ أحد وهمس في أذنك كيف يحصل على اللون الأزرق؟ وهل يملك الجرأة للتصريح بحبه للون البرتقالي؟ إنني لا أرى الألوان الجافة تقتحم هذه المساحات والحجوم، وأنه مع هذا اليأس لسنا في الحاضر ولسنا في الماضي، ولسنا في المستقبل.
كيف تقرأ الأثر، الذي قد يتركه أيّ شخص، والذي قد تتركه المادة أيضاً، وإلى أين تقودك قراءة كهذه؟ أسألك هذا السؤال لأنه في أعمالك علامات توحي بذلك؟
إن الأثر الذي يتركه شخص ما، عابر أو مقيم، قريب أو بعيد، يشبه الأثر الذي يتركه الزمن في المواد الهشة، أو المواد القاسية، التي تحفر فيها المؤثرات وتعطيها بعداً رابعاً. إن الطعم الذي يتركه الناس، شبيه بهذه الصراحة التي يحاول البشر أن يظهروها دائماً. وإن الحضور الذي يتمتع به بعض الأشخاص، له من هذه الصراحة والقوة التي تشبه وقوف الأوابد وانتصابها وهي تواجه الزمن، وقوة الرياح والعواصف وهي تحفر في هذه الأوابد، تزيدها صقلاً، ولا تقل قوةً وتأثيراً على المتلقي بل على العكس تخلق حواراً، مسألة ذهنية تحرضنا على التفكير والاستنتاج وبناء عوالم جديدة.أحياناً أتساءل ما الذي يدور من أفكار في رأس شجرة، وهل تشبه هذه الأفكار ما يدور في رأس الشخص الوحيد المنتصب بقربها؟ في تركيبة هذا الشخص جزء من التراب، وكثير من العناصر التي تملكها الشجرة، وفيه جزء من الكتلة الصخرية الشاهقة التي تقف تحته.
هذه الكتلة «الشجرة الشخص الصخرة» جزء من الكون، نيزك أو سفينة تتوقف لبرهة، قد لا تحمل أفكاراً ولكنها تنقل إليك أفكاراً، تشبه بغموضها ووضوحها ذلك الخيط الذي يفصل النور عن الظلام، تنقل عري الحقيقة وقوة الصمت وبلاغة الصراحة. إن كلاً من الشخص والشجرة والصخرة، يعرفون أنهم جزء من الحقيقة وهم منتمون بحكم القدرية، أما هو فيمكن أن يكون لا منتمياً لأنه يملك جزءاً من الحرية، وتصبح هذه الحرية مطلقة عندما تتحد مع الحقيقة الكلية، وهنا تغدو الفكرة أقوى من المادة. إن الثوابت هي الأفكار غير قابلة للتغّير، والتحول هو ما يأتي من الحرية التي يتمتع بها البعض، والأفكار موجودة لا توضع ولا تضاف وإنما تنمو مع بنية وجوهر الأشياء.
أريد أن أسألك سؤالاً له علاقة بالتلقيّ؟ ما مصدر المتعة الناجمة عن تأمل منحوته؟ كيف تولّد المنحوتة متعة أو تأثيراً في المتأمّل فيها؟
إنّ الذوق والحس والبصر والسمع ليسوا مجرد أقنية، والمادة التي تجري داخل هذه الأقنية المتصلة بين هذه الحواس والدماغ ليست شعوراً بالضبط، وإنما يمكن أن تكون شيئاً عينياً وحسياً، وهذا يقودنا إلى التساؤل :من أين تصدر اللذة والاستمتاع ؟ من العقل أم من الحواس، أم من الاثنين معاً؟
إذا كان في الجنون لذة، وإذا كان النبات يطرب، فإن غياب العقل في هذه الحالة أمر مشروع، ولكن هناك أشياء يطرب لها العقل أيضاً وهي أشياء على الأغلب تكون مركبة. هذه وجهة نظر الرائي، وإذا انتقلنا إلى الصعيد الفني لنناقش عملية الاستمتاع فإن الأمر ليس بسيطاً كما يبدو. فهناك الفكرة وموضوع الشيء، حيث المعنى في جوهره، وهناك السطح وقراءة العمل الفني، حيث الأشكال تأخذ قواماً تركيبياً أو بسيطاً مشوهاً أو جميلاً، ليؤدي الغرض وبالتالي ليخدم الفكرة.
صحيح أن الأفكار تنتج أشكالاً إلا أن الأشكال عندما تصبح وجوداً فإنها تمتلك كياناً وليست مهمتها بالضبط خدمة الفكرة، وإنما خدمة الفكرة جزء من بنية وقوام الشكل، الذي أصبح كياناً مرئياً عينياً بحد ذاته.
أودّ أن أسألك أخيراً عن تأثير الشعر في تجربتك كنحات، خاصة أنك أنجزت عملاً أطلقت عليه اسم «الرجال الجوف» وهذا عنوان معروف لقصيدة كتبها الشاعر ت.س.إليوت؟
إن الشعر هو مصدر إلهام دائم لي. ثمة شعرية في هذا العمل الذي يذكر بإليوت. الثياب الفارغة التي ترتدي الأجساد الفارغة قشرية إلى أقصى ما يمكن، بل ليس هناك أجساد وإنما أشكال أجساد خاوية هشة وجافة. هذا يعبر عن رجال المجتمع الراهن، الممتلئين بالفراغ والوهم. إنهم تماثيل فارغة. إنهم كائنات تخلت عن أفكارها. وحين تلامسها الريح تصدر رنيناً أجوف وأصواتاً خاوية. إن الرعب الذي يرتدُّ إلينا ونحن ننظر إلى الرجال الجوف ربما يجيب صدى صمتنا لنرى بحزن شديد جوهرنا الذي بدأنا نفقده.
[جميع الصور المنشورة في المقال من أرشيف الفنان مصطفى علي]